(14) في الفخر والمدح
النابغة الجعدي
1- خلِيليَّ عُوْجا ساعةً وتهَجَرا ** ونُوحَا على ما أحدْثَ الدهر أو ذرا
(خليليّ) حذف ياء النداء ؛ لإحساسه بقربهما من قلبه . وفي نداء الصديقين ، وطلب البكاء منهما يتأسى بامرئ القيس ، (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) . وربما يكون تجريداً يقصد به نفسه . كثرة استعمال فعل الأمر في البيت : (عوجا – تهجرا – نوحا – ذرا) دليل على قوة العاطفة وهي عاطفة الحزن . وفي الوقوف والبكاء نهج جاهلي لم يخرج عنه الشاعر المخضرم . (أحدث) حذف المفعول به ، وهو الشئ المحُْدَث ؛ للإيجاز والتركيز على الفعل من الفاعل (الدهر) . (ذرا) كذلك حذف المفعول به ، وهو النوح ؛ للإيجاز . الأمر بالنواح ، أو تركه اضطراب نفسي واضح ؛ ناتج من شدة الحزن .
نثر البيت :
صديقيّ ، ميلا على طلب الديار قليلاً ، وسيراً في عزِّ النهار وشمسه ، وابكيا على ما فعله الدهر ، أو اتركا الأمر برمته .
2- ولا تجْزعا إنَّ الحيّاة مَذََّمَّةٌٌ ** فَخٍِفَّّا لٍرَوْعَاتٍ الْحَوَادٍِثِ أوْ قٍِرَّا
(إنَّ الحياة مذمة) جملة خبرية ، ضرب الخبر فيها طلبي؛ لوجود مؤكد واحد هو إنَّ . بقية الجمل إنشائية طلبية : (لاتجزعا) فهي نهي، والأخريان أمر ، وهذه المزاوجة - بين الخبر والإنشاء - تؤكد رغبة الشاعر في مواساة صاحبيه ، أو بالأصح نفسه . استناداًعلى الجملة الخبرية تكون الطلبات والغرض البلاغي التماس ويمكنك أن تحسش فيه التعزية والمواساة . (روعات الحوادث) إشارة إلى مصائب الدنيا ، وعذاباتها .
نثر البيت :
واصبرا ، فالحياة مليئة بالمنغصات ، وواجها مصاعب ومصائب الدنيا ، واثبتا عندها .
3- وإنْ جاء أمْرٌ لا تُُطٍيْقََانِ دَفْْعُهُ ** فَلا تَجْزَعَا مٍمَّا قَضَى اللهُ واصْبٍرا
لجأ في هذا البيت إلى الجملة الشرطية ؛ للوصول إلى ضرورة الصبر في مواجهة الأقدار ، والرضاء بقضاء الله ، وهنا تظهر نزعة إيمانية - ليست بالضرورة تأثراً بالإسلام - فعند الجاهليين نجد هذا المستوى من التدين عند لبيد ، وزهير ، وغيرهم . وهذا كأنّه رد على مجنون ليلى حين يقول : (فهلا بشئ غير ليلى ابتلانيا) . (قضى) حذف المفعول به ؛ لغرض التعميم ، وهذا أبلغ في مجال الإيمان بقضاء الله .
نثر البيت :
ولو ألمت بكما مصيبة ، أو قضاء لا تحتملانه ، ولا تستطيعان منع حدوثه ، فعليكم بالصبر على كل ما يقضيه الله ، واحتماله ، والثبات عنده .
4- ألمْ ترَيا أنّ الملامَة نفْعُها ** قليلٌ إذا ما الشئُ ولّى وأدبْرا
(ألم) الغرض من الاستفهام التقرير . (أنَّ – ما) من مؤكدات الخبر ؛ لذا ضرب الخبر إنكاري . قلة نفع اللوم ليست مطلقة ، وإنّما مقيدّة بالشرط ، وهو انتهاء الحدث ، والمعنى هو نفسه عند عبد يغوث :
ألم تريا أنّ الملامة نفعها ** قليل وما لومي أخي من شماليا
والمعنى - كما ترى – واحد ، ويكاد اللفظ يتطابق ، سوى أنّ عبد يغوث يطلق عدم نفع اللوم ، والنابغة – كمارأينا – قيَّده . وعبد يغوث يوضِّح التزامه بما يدعو إليه ، وهو عدم اللوم ، والنابغة يجعلنا نفهم ذلك ضمناً. وكلاهما زاوج - في بيته - بين الخبروالإنشاء ، إلاّأنّ عبد يغوث خلا الخبر عنده من المؤكدات .
نثر البيت :
ألا تعتقدان – معي- أنّ العتاب تكون فائدته محدودة متى ما كان الحدث قد انتهى ، ولم يعُد بالإمكان إرجاع زمانه!؟
5- نَهِيجُ الِّحَاء والملامه ثمّ لا ** نُغَيِّر شيئاً غيْرَ مَا كَانَ قُُدِّرَا
(نهيج) في اختيار اللفظ إيحاء بالشدة ، والمبالغة في اللوم . (ثم) استعمالها تأكيد للمعنى ؛ إذ تعني مرور فترة ولايتغير الأمر . (شيئاً) تنكيرها إطلاق وتعميم يؤكد المعنى . (قدرا) حذف الفاعل ؛ للإيجاز ، والعلم به ، وهو الله الذي يقدِّر كل شئ .(خمسة الأبيات ) يسود فيها إحساس الحزن والكآبة ونلمسه في ألفاظ الشاعر الموحية بذلك (راجع تعليق الكتاب )
نثر البيت :
نكثر من العتاب واللوم ، ونشتد فيه على أمل أنْ يُحدث ذلك تغييراً قد كتبه الله لنا ، ولكن هيهات أن يحدث ذلك فما كُتب علينا لا يغيره اللوم ، ولو اشتدّ ، ولو بعد حين .
6- أتََيْتُُُ رَسُوْلَ اللهٍ إذْْ جَاءَ بٍالْهُدَى ** وَيَتْلُو كٍتَابَاً كَالْمَجَرّةٍ نيَِّرَا
(جاء بالهدى) مجاز مرسل ؛ فالمراد جاء بالقرآن الذي أصبح سبباً في الهدى ؛ فالعلاقة بين الهدى والقرآن مسببية ، وليست مشابهة وما ذكر في تعليق الكتاب – على الأرجح – خطأ مطبعي أو سهو. (عجز البيت) تشبيه مفرد . المشبه هو (كتاباً) ويعني به القرآن الكريم ، والمشبه به مجموعة النجوم (مجرة) ، ووجه الشبه النور والوضوح ، والأداة هي الكاف . في هذا البيت تحس الطمانينة والسعادة الناتجة من لقائه الرسول (ص ) .
نثر البيت :
جئت إلى مَنْ بعثه الله إلينا حاملاً ، ومصطحباً معه الهدى، ويرتل على مسامعنا قرآناً عظيماً ، هادياً ، مبيناً الطريق ، كما مجموعة النجوم الزواهر .
7- وَجَاهَدْتُُ حَتَى مَا أُحٍسُّ وَمَنْ مَعٍيْ ** سُهَيْلاً إٍذَا مَا لا ثُمَّتََ غََوَّرَا
(جاهدت) تدل على التأثر بالإسلام ، ولكن على مستوى اللفظ فقط ؛ فالمعنى - كما ترى - متداول في الشعر الجاهلي . (البيت) كناية عن صفة الاندماج في القتال والجهاد ، وهي- أيضا - دليل صدق وشجاعة . (سهيلاً) في اختياره تعميق للمعنى- مقارنة مع نجوم أخرى - لشدة لمعانه ، ولارتباط ظهوره بأسطورة لها علاقة بالعشق . (لاح – غوّرا) طباق إيجاب ؛ لأنّ المعنيين متضادان . (من معي) إشارة إلى قومه ؛ مما يعني جماعية الفخر .
نثر البيت :
وانغمست في قتال أعداء الله - مع قومي - حتى أننا لم نعد نشعر ، أو نبالي بظهور نجم السهيل ، أو اختفائه وإنطفاء نوره .
8- أُُقٍيْمُ عَلَى التَّقَوْى وأرضَى بفٍعْلِها ** وَكُنْتُُ مِنْ النارِ المَخُُوْفَةِ أَحْذَرا
البيت إسلامي لفظاً (التقوى–النار) ومعنىً ؛ إذ الفخر بالتقوى ، والخوف من نار جهنم لم يكن معنىً معروفاً في الجاهلية . (كنت) هنا تدل على الاستمرار ؛ إذ لا يستقيم المعنى إنْ كانت دالة على الماضي. (أحذرا) اسم تفضيل ممايجعل الفخر بالتميز في الحذر .
نثر البيت :
اعتمد في حياتي على الخوف من الله ، وأقبل بما فرضه عليّ ذلك الخوف من عمل ؛ إذ أنني - على الدوام – أتجنب ، بل أكثر تجنباً للوقوع في جهنم التي يرهبها المؤمنون .
9- وإنّا لقومٌ ما تعَوَّد خيْلُنا ** إذا ما التقينا أنْ تَحٍيْدَا وَتَنْفٍِرا
(إنَّ – اللام – ما الزائدة في عجز البيت) كلها مؤكدات للخبر ؛ مما يجعل ضربه إنكارياً، وهذا يتناسب مع الفخر . (ما تعوّد خيلنا أن تحيد وتنفرا) كناية عن نسبة الثبات في المعارك لقومه فأسندها لخيلهم ، واعتياد الخيل على ذلك دليل على شجاعة الفرسان وجَلَدٍهٍمْ . خصوصاً مع تقييد الإسناد بشرط اللقاء ، والذي يقصد به لقاء الأعداء في المعركة. (تحيد – تنفرا) اكتفى الشاعر بالفعل والفاعل وحذف شبه الجملة (عن لقاء الأعداء) و(من ميدان المعركة) بغرض الإيجاز والتركيزعلى الفعل . الفخر هنا جاهلي لفظاً ومعنىً ، وهو كثير في الشعر الجاهلي .
نثر البيت :
وإني لانتمي لمجموعة من الناس والأهل ، نتميز بأنّ خيلنا -متى ما التقت العدو-لم تألف التراجع عن قتاله ، أو الابتعاد عن طريقه .
10- ونُنْكِر يوم الرَّوْع ألوان خَيْلَنا**مِنْ الطَعنِ حتّى نحسَبُ الجَوْن أشقرا
(يوم الروع) يقصد به الحرب ، ويمكننا القول أنها كناية عن موصوف (البيت وبشكل أدق نحسب الجون أشقرا) كناية عن صفة كثرة الدماء ؛ مما يدل على شدة المعركة ؛ وبالتالي شدة بأسهم ، وقوة تحملهم . (الجون) من الأضداد - فقد تعني الأسود أو الأبيض - وهنا بمعنى الأسود . والبيت كسابقه جاهلي لفظاً ومعنىً . وفي البيت – كماترى - مبالغة في الوصف . (خمسة الأبيات7-8-9-10-11 ) تتميز فيها الألفاظ بالقوة ، والفخامة التي تناسب موضوع الفخر في الأبيات (راجع تعليق الكناب ) .
نثر البيت :
ولا نستطيع أنْ نميِّز ، أو نعرف ألوان أحصنتنا يوم الرهبة والخوف ؛ من كثرة الطعن حتى أنّنا نعتقد ماكان أسود قد أصبح أشقر .
11- بَلْغْْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَجُدُُودُنا ** وإنّا لنرجوْ فوْقَ ذلك مَظْهرا
(بلغنا السماء) شبّه المكانة الرفيعة التي بلغوها بالسماء ، بجامع العلو والرفعة في كلٍ ، وصرّح بالمشبه به ، على سبيل الاستعارة التصريحية ، والقرينة حالية . (جدودنا) في النص عليها دلالة على قدم المجد ، وأنه متوارث من الأجداد (راجع قيم ومثل) . (مظهراً) فسرها الشاعر بالجنة ؛ وفي ذلك التفسير صبغ البيت بصبغة إسلامية ، لولاها لكان البيت جاهلياً لفظاً ومعنى . (إنَّ – اللام) من المؤكدات ؛ لذا ضرب الخبر إنكاري .
نثر البيت :
استطعنا أنْ نصل بعزِّنا ، وعزّ آبائنا ، وآبائهم من قبلهم ، إلى مكانة سامية ، رفيعة كأنها السماء علواً ، ولكنّا - لطموحنا - نأمل في بلوغ ما هو أعلى من ذلك ، بل نرغب الوصول إلى الجنة .
12- ولا خيْرَ فٍيْ حِلمٍ إذا لم تكن له ** بَوَادِر تحمِي صَفْوهُ أنْ يُكَّرا
(تحمي صفوه) شبّه الحِلم بالماء في سهولته ، وعذوبته ، والحاجة إليه ، وحذف المشبّه به (الماء) ، ورمز له بشئ من لوازمه ، وهو الصفاء ، على سبيل الاستعارة المكنية ، والقرينة إثبات الصفاء للحلم ، وبما أنّ الحلم شئ معنوي ، والماء شئ مادي ، إذن جمال الاستعارة في التجسيم . كما أنه شخَّص البوادر ، وجعل لها قدرة وإرادة ، وهي الحماية هنا ، وذلك -أيضاً - عن طريق الاستعارة المكنية . (يكدّر) ببناء الفعل للمجهول ، حذف الفاعل بغرض ؛ الإيجاز ، والتركيز على الفعل . والبيت يشبه قول الفرزدق (أحلامنا تزن الجبال ...) راجع هم الأنصار ، وراجع أيضاً (وصية عمرو بن كلثوم) ، والحكمة في البيت واضحة ، والتأسي بزهير بن أبي سلمى فيهابيِّن .
نثر البيت :
العقل ، والرزانة التي لا تُدْعم بقوة تسندها ، وتحافظ على نقائها ، وانسيابها ،لا نفع فيها .
13- ولا خَيْرَ في جَهْلٍِ إٍذَا لَمْ يَكُُنْ لَهُ ** حَلٍيْمٌ إٍذَا مَا أوْرَدَ الأمْرَُ أَصْدَرا
(جهل) يقصد بها الغضب والحماسة . (أورد - اصدر) طباق إيجاب . البيت يمثل الجزء المكمل للحكمة في البيت السابق ، والدليل على جمال المعنى ؛ دعوة الرسول (ص) له - عند سماع البيتين - بقوله : لا يفضض الله فاك .
نثر البيت : والغضب ، وفورة الحماسة التي لا تستند على عاقل يقودها ، ويتزعمها عند احتدام الأمر ، لا نفع فيها ، ولا فائدة على الإطلاق .
مع تحياتي : عبدالرازق ادم يونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق